حينمّا تنبت الاوطان هناك مثلّ اعشاشٍ غريبة، ستُحلق منها الامنيّات الباحثة عن طمأنينة وسلام
من الفعاليات الثقافية المهمة التي شاركت فيها خلال تواجديّ في مدينة بيرن محل اقامتي فعالية إلتقاء الثقافات المقام على ارض مسرح الهايترفانة في بيرن.
الفعالية كانت غنية وجميلة ومنوعة وكان الهدف منها عرض الثقافات الجديدة الوافدة الى المدينة العتيقة مع جموعِ اللاجئين، وقد اتاحت الفرصة المباشرة لهم وللمواطنين السويسريين للإلتقاء، الحديث والمشاركة والتعرف والتعمق لكليهماّ على ثقافة الآخر وكانت هذه الإلتفاتة سابقة من نوعها كون مسرح الهايترفانة سباق دائماً لإحتضان الفعاليات التي تدعم الإندماج وترعاها بشكل مستمر وحثيث.
عند وصوليّ الى موقع الحدث فوجئت بالعددِ الكبير من الحضور وهي اول علامات نجاح أي فعالية او مهرجان او أي حدث في سويسرا فعدد الحضور غالباً مايكون سبباً مباشراً في نجاح الحدث او فشله، الكثير من اللاجئين كانوا يفترشون المساحات المتاحة لهم ويقدمون شيئاً من تراثهم او مواهبهم او اعمالهم والحضور في حديث ونقاش وضحك وتبادل الآراء، وغناء فلكلوري ورقص ينم عن فرح وتفاؤل وإستبشار بأمنٍ مفقود او وطن بديل، وثقة وليدة يجعل الناظر يشعر بإنه فعلاً اوآن الفرح الذي طال إنتظاره وإن السعادة متواجدة ومتأهبة لتكون أول الصارخين في لحظات التعريف عن الذات المفجوعة
وكما هو الحال في هكذا محافل يكون الطعام هو الجامع الأساسي للشعوب وبين اغنية ولقمة ورقصة حدث ما لم نكن نتوقعه، سقطت فتاة يافعة جميلة كانت بين حشود الفرحين وقد سقطت متخشبة متيبسة دون سابق انذار حتى اعتقد الجميع إنها مصابة بالصرع وإنها لم تتناول دواءها وهذا كل مافي الأمر، لكن الحقيقة لم تكن كذلك بل كانت ابشع بكثير، انّها الذاكرة القاتلة، فقد إتضح إن هذه الفتاة قد استرجعت لحظة سماعها للأغاني ومشاهدتها للرقص آخر لحظات مأساتها التي عاشتها في سوريا بعد أن ذهبت لحضور عرس في احدى القرى السورية مع زوجها وهمّا لايزالا في شهر العسل وتوافق سقوط احد الصواريخ على الحفل مما ادى الى فقدانها لزوجها وقدميها في نفس الفاجعة مع عدد من اهلها وهذا ما اعادها الى تلك اللحظة المؤلمة فسقطت ضحية ذاكرتها العامرة بالألم، المُضحك المبكي إن مشهد سقوط هذه الفتاة حدث حصراً في توقيت يبدو وكأنه مقدراً مسبقاً من قبل القدر ففعالية إلتقاء الثقافات كان عليها أن تشهد حقاً ثقافة جديدة وتتمعن جيداً فيما تعنيه هذه الثقافة، فليس الاكل والملبس والفلكلور الجديد من شعوب اخرى بعيدة فكرياً او ثقافياً او حتى تاريخياً فقط من يجب أن يلتقي به السويسريين اصدقائنا، بل هناك ثقافة اخرى يجب أن نكون اكثر وعياً بتقديمها والتعريف عنها ألا وهي ثقافة الوجع المليء بالحزن ذلك الذي لن تحتمله أي مهجة نقية ولكن ولسوء الطالع نحن المبتلون بهذه الثقافة وعلينا أن نكون اكثر وعياً بما مُلئت به ثنايا ارواحنا وما يراه فينا الاخرون ، الاخرون الذين يشاركوننا اليوم ونشاركهم بقعة الارض ذاتها والنظام ذاته وها هنا سنفترش احزاننا التي رافقتنا رغماً عنا لتكون جزءً لايتجزأ منا ومن وطننا البديل الذي إخترناه عسى أن نستطيع إجتياز محنة الماضي الذي لايزال يمثل أمامنا كل ما سمعنا اغنية او تراءت لنا ومضة تحمل معها شيء من ما مررنا به وحفر في دواخلنا نقشاً فرعونياً ليكون شاهداً ابدياً على وجودنا وكينونتنا.