صورة التقطت من قبل زهر في حديقة الحيوانات في بيرن
في سن الخامسة عشر من عمري توجب علي الذهاب كأي عريبة سورية لمركز
السجل المدني كي أتقدم للحصول على البطاقة السورية. قبل هذا العمر كان اسمي مسجلاً في دفتر يسمى الدفتر العائلي. في هذا الدفتر يُكتب اسم الزوج أي „أبي“ و الزوجة الأولى أي „أمي“. إضافة إلى ثلاث صفحات متتالية يُكتب في رأس كل صفحة منها اسم الزوجة الثانية ، الثالثة والرابعة. في دفتر عائلة والديّ بقيتْ الصفحات الثلاث فارغة.
بالنسبة لأبي كان الأمرُ واضحاً بأن أمي هي الأولى والوحيدة. بعد الصفحات الأربع تتالى صفحة الابن الأول ، الثاني، الثالث و حتى العشرين. من الطبيعي أن تكون هناك عشرون صفحة للأبناء والبنات إن كان هناك صفحات لأربع زوجات.
ذهبتُ حينها إلى مركز السجل المدني المتواجد أصلاً في مركز شرطة المدينة. في ذلك الوقت شعرتُ بأني داخلة إلى التحقيق. توجب عليَّ احضار صورٍ شخصيةٍ و الدفتر العائلي. لكن الموظف أخبرني بأنه يتوجب علي إحضار شاهدين. مهمة هذين الشاهدين أن يقولا بأنني أنا فلانة ابنة فلان و فلانة و أنَّهما يعرفاني تمام المعرفة. قلتُ للموظف حينها: و كيف لي أن أجد أحداً في هذه اللحظة يعرفني؟ فقال لي الموظف: ليس مهماً أن يعرفاك بل المهم أن يوقعا في الملف. ذُهلتُ مما قاله و لكنني فعلتُ كما طلب مني. خرجت للشارع و طلبت من رجليّن كان متواجدان صدفةً، أن يرافقاي إلى مكتب الموظف كي يوقعا على معرفتهم بي. بعدها قام الموظف بتدوين المعلومات كاملة عني و تقدم إلي وأخذ يديَّ دون استئذان و بدأ يسحب اِصبعاً تلو الآخر لاستخراج البصمات. لكنه كان يضغط على يديَ بشدة.
بعد فترة ستة شهور تَوجبَ عليَ الذهاب إلى مركز السجل المدني كي أحصلَ على البطاقة المدنية الخاصة بي. لم أكن أتوقع أنه سيأتي يوم و أستخدم بطاقتي بشكل إجباري.نعم اجباري! حيث يتوجب علي أن أنتخبَ الرئيس السوري على الرغم من أنفي. ذات يوم قُرعَتْ الطبول و توجب على أمي أن تسنفركضابط الجيش ، لتجمعَ البطاقات الشخصية لأخوتي و أن تذهب بها إلى صناديق الإجبار لا الانتخاب. هذه الصناديق التي تُزرع في كل مدرسة وكل مركز حكومي في كافة أنحاء سورية. في ذلك اليوم طلبَتْ أمي بطاقتي الشخصية، فرفضتُ أن أُعطيها إياها و قلت لها : لا أريد انتخابه. لماذا أنتخبُه أساساً إن كان شعاره “ الأسد إلى الأبد“ إنه دائم في السلطة.
فقالت لي أمي و هي غاضبة من تمردي: هو أسدُ و أنت جاموس. منذ ذلك اليوم بتُ أشعر بأنني لا أعيش في دولة أو في مجتمع بشري. بل أعيش في حديقة حيوانات يحكمها ملك الغاب. كيف لا و العديد منا يتحلى بأسماء حيوانات مثل : الديك،غزال ،النمر،الحصان، الحمير ،الحسون العصفور ، الزرزور والجاموس. إنَّها حديقة حيوانات بامتياز.
كانت أمي خائفة جداً فهناك عيون ترصد عائلتنا. أخذت أمي بطاقاتَنا وذَهبتْ كي تنتخب قدرَنا المؤبد. كانت تُدرك تماماً بأنها بهذا التصرف تكون قد اشترت الأمان للعائلة.
في ذلك المركز الإجباري أي الانتخابي تكون ورقة الانتخاب مكتوب عليها “ لا“ أو “ نعم“ تساءلتُ كثيراً لماذا تتواجد كلمة „لا“ إن لم يكن بمقدور أي شخص أن يختارها. إضافة الى هذه الورقة يتوجب على المُنتخب اِجبارياً لا اختيارياً أن يَبصمَ بالحبر الأحمر لا الأزرق و الذي يرمز للون الدم. بمعنى اننا كشعب نفتدِيَّ رئيسَنا بالدم و الروح بدلاً من أن نفتديَ تراب الوطن. عادت أمي و رفعت يداها عالياً لترينا بأنها بصمَتْ بالأصابع العشر لا الابهام فقط. لقد بصمَتْ أمي بالأصابع العشر للأسد كي لا يأكل عجولَها.
الانتخابات السورية هي الانتخابات الوحيدة التي لا تحتاج أن تذهب أنت بشكل شخصي. يكفي أن ترسلَ هويتَك مع أحد من العائلة أو حتى الجيران و سيسجل اسمك ضمن خانة المخلصين للأسد و ليس البلد. كما أن هناك دهاء للمخابرات السورية يتم معرفة إن كنتَ قد انتخبتَ الأسد من خلال طبع مجسم طائر العنقاء على زاوية البطاقة الشخصية. فإن تقدمت ذات يوم لاستخراج أي ورقة رسمية و لم تكن هذه الطبعة موجودة فأنت ستكون بعد لحظات في عداد المفقودين إلى الأبد.
بعد سنوات من التخطيط المخابراتي تم استخراج البطاقة الانتخابية. بطاقة خاصة تستخدم فقط للانتخاب الإجباري الرئاسي لا غير. أيضاً أنت لست بحاجة لأن تذهب بشكل شخصي و توقع بالدم أي الحبر الأحمر ولاءك للسلطان. كل ما انت بحاجة إليه أمَّاً تذكرك بأنك جاموساً ليس إلا.
زأر الأسد الأب زئيره الأخير في العاشر من شهر حزيران من العام ألفين. في ذلك اليوم الذي لم و لن أنساه طوال عمري، رأيتُ بأم أعيني كيف انتشرت عناصر المخابرات في لباسها الأسود المخيف في كل شوارع دمشق و كيف أعطوا الأوامر بإلغاء جميع الامتحانات الجامعية و تعطيل كافة مجريات الحياة في سورية. كنت في تلك اللحظة متجهة نحو الجامعة حين سمعتُ عنصَر المخابرات يأمرُ الشابَ كي يغلق مكتبته. سأله الشاب: لماذا؟ أجابه : لقد مات الأسد. كان جوابه صادماً للشاب و كان كارثياً بالنسبة لي. من هو الحيوان الأكثر وحشية الذي سيخلفَ ملك الغابة ؟
عدتُ أدراجي لسكني و بينما كنت أسير كان هناك شاباً يبكي فعرفتُ أن ساعة اللطم قد حانت. تساءل شاب آخر و فتاة كانا يسيران بمحاذاتي عن سبب بكاء الشاب ، فقلتُ لهما ذات الجملة التي قالها عنصر المخابرات بينما كنت أتابع المسير: لقد مات الأسد.
لم أتوقع ردة فعل الشاب فلقد لحق بي و أمسكني من ملابسي في منطقة الصدر وقال غاضباً: كيف تجرؤين على قول ذلك؟
لقد أرعبني الشاب لكنني قلت له بكل رباطة جأش: رحمة الله عليه. تابعتُ مسيري متجهة إلى السكن الجامعي حيث أصبح النواح والعويل عالياً ، ولطم الوجه قوياً من قبل بعض الطالبات. بعد لحظات معدودة ارتفعتْ أصواتُ الهتافات عالياً في وسط العاصمة دمشق “ بالروح وبالدم نفديك يا بشار“.
لقد خَلفَ الشبلُ الأسد بسرعة ، إنه الطبيب المعالج لحزن غابتنا ، إنه ملك الغابة الجديد.
لقد عُدل دستور البلاد و أقسمَ الشبلُ أنه سيأكل العشبَ و اللحمَ و أنَّه سيبقى مخلصاً لتاريخ الفصيل الدمَوّي و أنه سيكون المفترس الأقوى. لقد نُصبَ رئيساً دون أي انتخابات تشريعية ، دون نعم أو لا و دون حبر أحمر. هذه المرة لم يكن هناك أي داع لقلق أمي و لا لتمردي. مرت الأعوام الأولى من حكم الشبل ليزئر عالياً هذه المرة كأسد. أراد بزئيره أن يقنعَ العالم بأنه ابن أبيه. فأمرَ الضباعَ بإجراء انتخابات اجبارية كالعادة. أَومأَتْ أمي إلي بأن أُغلقَ فميَّ طوال أيام الانتخابات و أن أُعطيها بطاقتي الشخصية و إلا سوف تمنعني من الذهاب إلى أي مكان و إلا سأكون سجينة المنزل بدلاً من سجينة في الأقبية.
الرحيل
في العام 2014 أقيمت انتخابات من أجل ولاية أخرى للأسد الابن. كان الأسد طوال الأعوام الثلاثة بعد اندلاع الثورة يصف الشعب الثائر بالمندسين ، المخربين و يزج في السجون كل من يطالبه بالتنحي عن السلطة. في هذا العام أي 2014 لم تكن أمي لي بالمرصاد بل كان زوجي السابق . لقد دار شجار كبير بيننا من أجل الانتخابات. كان يطالبني بالبطاقة الشخصية من أجل أن يذهب بها إلى مركز الاقتراع وأن يتم تسجيلي من ضمن القطيع المخلص للأسد . كان صوت خواريَّ عالياً و رافضاً. كيف بالامكان أن أنتخب من وصفنا بالجراثيم ، أمر بقتل الآلاف من الأطفال و الأبرياء وهجر الملايين إلى بلاد الشتات؟ كيف؟ صراعٌ دامَ لساعات داخلي. حتى فقدَ الأملَ في التصرف بصوتي كما يشاء له ولملك الغابة. فاستسلم.
بعد هذا الصراع قررتُ رفض أي تشويه لإرادتي و أقسمت أن لا أرضخ مستقبلاً لأي نظام خوف أو إرهاب. ودعت خوف أمي على عجولها و رحلت.
هنا في الشتات تحديداً في سويسرا ، شهدت لأول مرة في حياتي انتخابات برلمانية حرة لا يُجبر أحداً بها للذهاب إلى صناديق الاِقتراع.
صباح الأحد الماضي انتابني شعور نادر بينما كنت مستلقية في سريري الدافئ. شعور مضحك مبكي „تراجيكوميدي“ لم يسبق لي و أن أحسست به طوال حياتي في بلدي المنكوب.
شعور حزن عميق انتابني فغصتُ للحظات بذكرياتي مع أمي الحبيبة وخوفها على سلامتنا وكلماتها التي لا تزال تُثقل صدري : „هو أسد وأنت جاموس“. تذكرتُ أن حياتي كلها من مولدي حتى نزوحي عشتها جزءاً من قطيع. بينما كنتُ أترددُ بين الاستسلام لهذا الشعور و التمرد عليه مجدداً ، اِجتاحتني نوبةً من الضحك. نعم الضحك. فجميع أصدقائي الأجانب مستاؤون من عدم أحقيتهم بالاِنتخاب بينما أنا أستمتعُ لأول مرة في حياتي بالحرية الكاملة بالبقاء في سريري. ازداد ضحكي بالذات عندما شعرتُ باللذة في الخوار والزئيرمعاً. بينما كان الجميع متجهاً لأداء واجب الانتخاب شعرتُ برغبتي لزيارة مكان أليف. مكان أزوره بكامل إرادتي لأودعَ آخر مرة ذلك الشعور بكوني جزء من القطيع.
لقد زرتُ حديقةَ الحيوانات في بيرن حيث لا وجود للأسد. كم أنت جميلة يا داوهولتسلي!
لقد تم نشر القصةأيضا في الصحيفة الموجود رابطها في الأسفل :
https://www.tagblatt.ch/leben/privileg-demokratie-eine-syrerin-schildert-ihre-leidensgeschichte-und-reflektiert-ueber-freie-wahlen-ld.1162933